هذا هو دور دماغك في الطعام (*)
يكشف التصوير العصبي عن أساس مشترك بين الولع بالشوكولاته والإدمان على المخدِّرات.
<L.K.أوزيلّي>
تبيّن الأدلة المتزايدة أن الميل الشديد إلى الأكل وسَرَف المخدِّرات(1) يوظِّفان بعضا من الدارات الدماغية ذاتها وبطرق متشابهة، ويقدم ذلك زاوية جديدة لفهم البدانة ومعالجتها. وفي مقابلة مع مجلة ساينتفيك أمريكان، تشرح <D.N.کولكو> [التي تشغل منصب رئيسة المعهد الوطني لسَرَف المخدّرات (NIDA) والرائدة في دراسة الإدمان] هذه المكتشفات الحديثة. مفاهيم مفتاحية
يقدح الطعام والمخدِّرات المحرَّمة دارات دماغية معنية بالإثابة والسرور. إنهما يُنْشئان استجابات إشراطيةconditioned يكفي لإثارتها لاحقا مجرّد رؤية الطعام أو المخدِّرات أو حتى البيئة التي تمَّ فيها تناولهما.
تحصل هذه الاستجابات على المستوى الفيزيولوجي العصبي الأساسي. وقد يكون البدينون والمدمنون على المخدِّرات يحاولون بذلك معاوضةَ استجابة شاذة للدوپامين الذي هو ناقل عصبي neurotransmitter يتوسط سلوك السعي إلى الإثابة. وقد يجعلهم هذا الشذوذ يتصدون للأمر باللجوء إلى الطعام والمخدِّرات بشكل متواصل.
ثمّة حاجة إلى استراتيجية متعددة الوجوه لمعالجة الإدمان. فالأدوية والتغذية الراجعة (المرتدة) الحيوية(2) وعلاج المجموعة grouptherapy لها جميعا مواقعها في هذه الاستراتيجية. محررو ساينتفيك أمريكان |
ما هي الدارات الدماغية التي تشترك الأغذية والمخدِّرات في تفعيلها؟
تتمثل المنظومة الموجودة في الدماغ والتي تشترك في تفعيلها الأغذية والمخدّرات من الناحية الأساسية بالداريّة circuitry المعنيّة بسلوك الإثابة(3) الضروري لبقائنا على قيد الحياة. فأحد الأسباب التي تجذب البشر إلى الطعام كون هذا الأخير مدعاة للإثابة ومثيرا للشعور بالارتياح. فعندما نعيش خبرة سارة تتعلم أدمغتنا أن تربط هذا الإحساس بالظروف التي تتنبأ بها ـ وتقوى تلك الذاكرة حينما تصبح دورة التنبّؤ بالسرور والسعي إليه والحصول عليه أكثر وثوقا. وحسب المصطلحات العلمية، فإننا نسمي هذه العملية الإشراط conditioning. تكون المخدِّرات فعالة بشكل خاص كمنبِّهات إشراطية بسبب خواصها الكيميائية من الناحية الأساسية. ويشار في هذا الصدد إلى أن المعزِّزات الطبيعية natural reinforcers، مثل الطعام والجنس، تستغرق وقتا أطول لتفعيل مسلك الإثابة. ولكن ما هو مهم لكليهما (أي المخدرات والمعزِّزات الطبيعية) أن الإشراط يربط الذاكرة ليس بمنبه ما فقط، بل وبالبيئة التي يوجد فيها ذلك المنبِّه ودالاّت cues أخرى ذات صلة. وهذا بالضبط ما قَصَدَته الطبيعة: إذا كان الفعل المطلوب لتحقيق خبرة سارّة لا ينبعث إلاَّ بواسطة المنبه المعنيّ حصرا، فإن الاستجابة الإشراطية conditioned response سوف تكون غير ناجعة جدّا في الواقع. فحالما يتسنّى لك تكوين ذاكرة إشراطية، فإنها ستكون على غرار كلب پاکلوف، بمعنى أن الاستجابة تصبح مُنعكسا reflex. وهذهِ الاستجابة الإشراطية تشكل الأساس للحافز في حالة الإدمان على المخدّرات والإقبال على الطعام برغبة عارمة. لهذا السبّب تكون الأغذية العالية الكالوريات (الحريرات أو السُّعرات) calories، ولاسيما الأغذية الغنية بالدهون أو السكر، أكثر احتمالا لبعث السعي الجبري compulsive للأكل. ويوم كنا صيادين، لم نكن نستطيع دائما أن نفلح في العثور على شيء نأكله ولذلك كانت الأغذية العالية الكالوريات، التي تحتوي على الكثير من الطاقة، تقدِّم ميزة للبقيا survival. وفي تلك البيئة كان من الأفضل لنا أن نستهلك الكثير من هذا النمط من الأطعمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. فهي لذلك معزِّزة reinforcing جدّا. أما اليوم، فإننا حين نفتح براداتنا (ثلاجاتنا) نمتلك فرصة بنسبة مئة في المئة للعثور على طعام. لقد تغيَّرت جيناتنا قليلا ولكننا محاطون في بيئتنا بأطعمة غنية بالدهون والسكر، الأمر الذي أسهم في زيادة البدانة. ما الذي يجري في الدماغ أثناء رغبة ملحّة أو توق شديد؟
لو أن <پاکلوف> استطاع أن ينظر ما يجري داخل أدمغة كلابه لكان من المحتمل أن يرى ازديادا في الدوپامين dopamine حين كانت حيواناته تسمع الصوت الذي سبق ل<پاکلوف> أن كان يَقْرِنُه مع تقديمه اللحم للكلب. فالدوپامين يفيد في إعلامنا أمرا مهمّا: إننا بحاجة إلى كسْرات bits غير متوقعة من معلومة جديدة نوليها انتباهنا كي نحفظ بقيانا، ألا وهي تنبيهات تخص الجنس sex والطعام food والسرور، وكذلك الخطر والألم. لقد توثقنا من أنك حين تَعْرضُ للناس أطعمة جرى إشراطهم عليها، فإن زيادة في الدوپامين تتحقق في الجسم المخطط striatum لديهم، وهو منطقة دماغية تضطلع بالإثابة والتحفيز السلوكي(4). حذار أن تظن أن هذهِ الزيادة تنجم عن شم رائحة الطعام ورؤيته، لأننا نقول لمن يشاركون في الدراسة إنهم لن يستطيعوا أكله. وهذهِ هي الاستجابة الكيميائية العصبية ذاتها التي تحدث حين يرى المدمنون شريط کيديو لأناس آخرين يتناولون المخدِّر أو يرون شيئا ذا علاقة بالمخدِّر المفضّل لديهم. فالرسالة التي تتحقق لديك حين يتحرر الدوپامين في الجسم المخطط هي أنك يجب أن تبادر إلى إنجاز هدف معيَّن. إنه محرّك قوي للدوافع motivator. ويُعدُّ التغلبُ على هذه الإيعازات بقوة إرادة محضة أمرا بالغ الصعوبة. وكذلك نجد في أدمغة المدمنين على المخدِّرات والبدينين كليهما، وبشكل نمطي، عددا مُخَفّضا مما يسمى مستقبلات الدوپامين(5) D2 في الجسم المخطط إذا ما قورن بغير المدمنين وغير البدينين. وربما تبين هذهِ المكتشفات أن الدماغ يحاول بطريقة ما التعويض عن الاندفاعات المتكررة للدوپامين بسبب التنبيه stimulation المتواصل الذي يؤدّيه المخدِّر والطعام. وثمّة احتمال آخر يتمثل في أن هؤلاء الأفراد يمتلكون بشكل طبيعي أعدادا منخفضة من المستقبلات كي يبدؤوا بها، الأمر الذي قد يضعهم في خطورة عالية لأمراض الإدمان عموما. وإنه لمن الممتع أننا وجدنا ترابطا سالبا(6) بين توافر المستقبلات D2 لدى الأفراد البدينين وبين قرينة كتلة الجسم body mass index (أو BMI اختصارا). وبعبارة أخرى، فإنه كلما كان الشخص أكثر بدانة قلّت المستقبلات D2 التي يمتلكها. هل يوجد أناس معينون يتصفون بخطورة أكبر تجاه الإدمان على
المخدِّرات أو الطعام؟
إننا نعرف من دراسات التوائم أن خمسين في المئة تقريبا من الخطورة بالنسبة إلى الإدمان والبدانة هي جينية genetic. ولكن الجينات المَعْنِيّة تؤدي دورها بعدة مستويات مختلفة ـ انطلاقا من فروق في الكفاءة التي تَسْتَقلِب metabolize أدوية أو أغذية معينة وانتهاء بفروق في احتمالنا الاضطلاع بالمخاطرة أو بسلوكيات استكشافية ابتغاء المزيد من الأخطار النوعية مثلما تنطوي عليه منظومة الإثابة reward system. في البدانة قد يكون بعض الناس معرضين لخطورة أكبر من جراء الأكل الجبري، لأنهم يمكن أن يكونوا حساسين جدّا لمنظومة الإثابة. وقد أظهرت إحدى الدراسات أن بعض الأشخاص البدينين يتَّصفون بزيادة في الفعالية الدماغية استجابة لإحساسات الفم والشفتين واللسان. وعلى نحو مشابه، لا يكون بعض الأشخاص فعالين جدّا في تسجيل أو الاستجابة للإيعازات الداخلية بالشبع، ولذلك يكونون أكثر تأثُّرا بالرغبات الملحّة التي تبعثها دالاّت cues الغذاء في بيئتهم. هل يكشف التداخل بين الإدمان والبدانة أي أهداف جديدة للمعالجة؟
ثمّة مداخلات فارماكولوجية يُطلب استكشافها، مثل الأدوية التي تزيد استجابة الدوپامين في الدماغ. فأحد الإنجازات المثيرة يتمثل في الاصطناع الجديد والاختبار الأوّلي لعقَّار يُعْطى عن طريق الفم ويُحاصِر(7) پپتيدا peptide يدعى أوريكسين orexin يعزِّز النشوة high التي ترافق شرب الكحول، كما يعتقد أنه ينظم الرضاعة. وهذا العقّار قد يكون مفيدا جدّا في معالجة تناول الأطعمة المنحرفة وتعاطي المخدِّرات. وكذلك، وبسبب الطَّرح الاجتماعي، فإن البدانة والإدمان على المخدرات كليهما يمكن أن يقودا إلى حس انعزال isolation يعتبر مُكربا جدّا، ومن ثم يمكن أن يكون علاج المجموعة group therapy مفيدا. وهناك أيضا مجال مثير يبحثه المعهد الوطني لسَرَف المخدِّرات NIDA ويتمثل في استخدام التصوير بالتجاوب المغنطيسي الوظيفي (أو fMRI) في الوقت الحقيقي in real time لتدريب الناس على تمرين أجزاء معينة من أدمغتهم، تماما مثل العضلات. وباستخدام هذه الطريقة تمكّن <S.ماكري> [من جامعة ستانفورد] و<Ch.دوشارمز> [من أمنيورون في كاليفورنيا] وزملاؤهما أن يدربوا أفرادا أصحّاء وأفرادا يشكون من ألم مزمن على التحكُّم في فعالية أدمغتهم من أجل تلطيف شعورهم بالألم. وهكذا نستكشف إمكانية استخدامك مثل هذا النوع من التقنية لتدريب الناس على التحكُّم في منطقة من الدماغ تدعى الجزيرة insula التي تكون قد تورّطت في الرغبة الملحة للطعام ونظيرتها للمخدِّرات. أما المدخنون المصابون بآفة في الجزيرة هذهِ إثر سكتة stroke فإنهم على ما يبدو يفقدون الرغبة بالتدخين. لعل العائق المتميِّز فيما يخص شفاء أولئك المصابين بالتناول الجبري للطعام يكمن في الحقيقة الواضحة بأنك لا بد أن تأكل كي تعيش، في حين أنك إذا كنت مدمنا على مادة غير مشروعة، فإنك في طريق محميٍّ protected، لأن المخدِّر لن يصبح متاحا لك من الناحية البيئية في كل مكان. وتتمثّل إحدى المداخلات العلاجية للمدمنين على المخدِّرات في أن تعلِّمهم اجتناب الأمكنة المرتبطة بهذه العادة. ولكن كيف ستفعل ذلك بالنسبة إلى الطعام؟ إن ذلك مستحيل، وسيبقى هؤلاء يقاسون. فقد تبيَّن بالنسبة إلى الجرذان أنك إذا قدمت لها أقواتا diets غنيّة جدّا بالسكر، ثم ناولتها مضادا أفيونيّا opioid antagonist يدعى نالوكسون nalaxone، فإنك تستطيع أن تسبب انسحابا( withdrawal يشبه الانسحاب لدى الحيوانات التي تعطى النالوكسون بعد الحقنات المتكررة بالمورفين. وتشير هذهِ النتيجة إلى أن التعرُّض لأقوات غنية بالسكّر يولِّد اعتمادا جَسَديّا physical dependence عند هذه الجرذان. فإذا كان يحدث عند البشر سيرورة مشابهة، فعندئذ قد تكون المداخلات الهادفة إلى تخفيف أعراض الانسحاب للذين يتبعون حمية غذائية dieters مفيدة. إن المريض الذي يشاهد صورا في الزمن الحقيقي للنشاط في دماغه، قد يستطيع تغيير آلية وظائف الدارية العصبية neural circuitry فيتوصل بذلك إلى إجراءِ تحكُّم في الرغبة الجامحة لديه للطعام والمخدِّرات. |
سيدة المقابلة | Nora D. Volkow |
رئيسة المعهد الوطني لسَرَف المخدِّرات National Institute for Drug Abuse. وقد سبق لها أن تبوأت قبل تعيينها بهذا المنصب في عام 2003، مواقع مختلفة في مختبر بروكهاکن الوطني، وعملت كذلك أستاذة للطب النفسي ونائبة عميد كلية الطب في جامعة بروكهاکن. وكانت في أبحاثها أول من استخدم تقانة التصوير في استقصاء التغيرات الكيميائية العصبية المرتبطة بالإدمان | |