بسم الله الرحمن الرحيم
النظام السوداني وتجربته الإسلامية
مقدمة:
المجاهدون والمجتهدون والمجددون حفظوا راية الإسلام عالية وجذوة الإسلام حية في القلوب والعقول عبر القرون.
وعندما تعرضت البلاد الإسلامية للغزو الأجنبي فسقطت تحت قبضته قطرا قطرا تصدى المجاهدون والمجددون للغزاة بالنداء الإسلامي وأوقدوا به شعلة المقاومة المستمرة.
لقد استطاع الاستعمار أن ينازل تلك المقاومة عسكريا فيهزمها و أراد أن يواصل انتصاره فيحقق مع الفتح العسكري فتحا ثقافيا وفكريا. وبدا لبعض الوقت أنه حقق ذلك. لكن المقاومة الإسلامية في هذين المجالين استمرت حتى أتت ظروف ضعف فيها الاستعمار عسكريا وسياسيا فتحركت ضده الشعوب وحققت استغلالها السياسي. وكما بقيت المقاومة الفكرية والثقافية للاستعمار حتى بعد انتصاره فقد بقيت آثار الغزو الأجنبي الفكرية والثقافية حتى بعد اندحار الاستعمار سياسيا وعسكريا.
لذلك واصلت الصحوة الإسلامية المعاصرة عطاء المجاهدين والمجددين والمجتهدين الدين رافعة راية الإسلام في وجه آثار الغزو الفكري والثقافي. لم يكن للصحوة الإسلامية المعاصرة مركز واحد ولا أسلوب موحد ولكن بتوفيق من غاية الله تضافرت مجهودات الدعاة والمفكرين والكتاب والتحمت بحركات التحرر الشعبية وبتطلعات الشعوب لاسترداد أصالتها وكرامتها وبحرص الشعوب على السيطرة على مصائرها وثرواتها وبنفرة الشعوب من التبعية خارجيا والاستبداد داخليا فأدى هذا اللقاح المبارك إلى حركة الصحوة الإسلامية الحديثة. وعندما هلت تباشير القرن الخامس عشر الهجري استعدت حركة الصحوة بطائفة من الخطط والدراسات لرسم خطي استهداء المجتمعات المسلمة بالكتاب والسنة. ومع اختلاف الخطط التي بحثتها المؤتمرات والندوات ودونها المفكرون في كتبهم وعالجها الكتاب في المجلات الجادة فان الجميع يكادون يتفقون على المعالم الآتية:
أولا: إعطاء الأولوية لاقامة ولاية إسلامية تتولى إقامة النظام الإسلامي, واقتراح نماذج عصرية لهذه الولاية الإسلامية نماذج مبنية على تطوير فقه الأمام تطويرا ينطلق من الكتاب والسنة ويراعي ظروف العصر الحديث.
ثانيا: حل مشاكل الثنائية في القوانين بين الفقهي والوضعي ومشاكل المذهبية في الأحكام الفقهية باعتماد الكتاب والسنة مصدرين وحيدين للأحكام وتكوين لجنة فنية من فقهاء وعلماء ومفكرين بتقنين الشريعة من مصادرها والتطلع لمجلس أو مجالس صحيحة النيابة عن الشعب لدراسة ذلك التقنين و إجازته و بذا تكون قد قامت إدارة محكمة للاجتهاد الجديد وادارة فعالة لتشريع الأحكام.
ثالثا: تأكيد أن في خطة الصحوة الإسلامية الحديثة تكاملا تاما بين تطبيق الشريعة الإسلامية واحترام حقوق الإنسان في الحرية والكرامة التي يوجبها الإسلام. وتكاملا بين التطبيق الإسلامي والوعي بالظروف المتجددة المعاصرة هذا أيضا مما يوجب تعاليم الإسلام.
رابعا: الاهتمام بالتنمية الاقتصادية لتحقيق التنمية من منظور إسلامي والاهتمام بتوزيع عائد التنمية توزيعا عادلا تحقيقا لمبادئ العدالة الاجتماعية في الإسلام إشباعا لتطلعات الشعوب..
خامسا: التحرر من علاقات الهيمنة الخارجية والقضاء على العلاقات غير المتكافئة وتحرير إدارة الشعوب المسلمة و إقامة العلاقات الدولية على السلام العادل.
هذه المقاييس الخمسة لعبت دورها في بث الوعي بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ولعبت دورها ي استقطاب الفكر والرأي حول رايات الدعوة الإسلامية الحديثة وستلعب دورا هاما في مقاييس تجارب التطبيق الإسلامي المعاصرة لمعرفة هل هي صحيحة الانتساب للصحوة الإسلامية أم هي تحركات متهافتة سمعت دوي الإسلام في الساحة العلمية ورأت علو شوكته في الشارع السياسي ولمست إخفاق مناهجها غير الإسلامية فاندفعت نحو الساحة الإسلامية قائلة أنى لا احب الآفلين . فيما يلي دراسة مفصلة للتجربة (الإسلامية) السودانية من منظور الصحوة الإسلامية المعاصرة نقدمها لا حبا في النقد ولكن لتحقيق هدفين اثنين هما:
الأول: ألا تحسب سلبياتها على الحركة الإسلامية المعاصرة.
الثاني: أن تتخلى - ان كان فيها ذروة من جدية وغيرة عن طريقتها الفاشلة وتلحق نفسها بالصحوة الإسلامية لعلها تجد عند الله و الأمة قبولا فالتوبة تجب ما قبلها.
أزمات النظام وشعار الإسلام:
ان أولى المشاكل السياسية التي يعاني منها نظام الحكم الانقلابي هي مشكلة شرعية .ان إحساسه بأنه استولى على السلطة خلسة بجعله قلقا من أن يسقيه الآخرين بنفس الكأس لذلك نجده مشغلا بتدني سياسات واتباع نظم يحسبها قادرة على منحه شرعية توسع قاعدة قبوله وتقفل الطريق أمام المغامرين المتآمرين عليه في صفوف القوات المسلحة، ومنذ الأربعينات من القرن العشرين الميلادي اكتشف بيرون في الأرجنتين باقتراح من زوجته (حواء) وسيلة لاكتساب شرعية لحكمة العسكر الانقلابي عن طريق تبني قضايا ومصالح فئات اجتماعية معينة.
لقد تعرض السودان قبل استقلاله وبهده لكل التيارات الفكرية والسياسية التي اجتاحت الشرق العربي وأفريقيا بعد الحرب العظمى الثانية. ونتيجة لذلك نشأت في السودان أحزاب عقائدية من بينها حزب شيوعي. كما نشأ في السودان تيار قومي عربي ناصري وفي منتصف الستينات من القرن العشرين صار الشيوعيون والناصريون يشكلون المعارضة اليسارية في السودان. وهم الذين تحالفوا مع جماعة من الضباط السودانيين فقاموا معا بحركة 25 مايو 1969م.
تبنت هذه الحركة برنامج الحزب الشيوعي السوداني وأقامت شرعيتها على مخاطبة الشارع السياسي اليساري والدليل على ذلك هو:-
أ. تسمية السودان جمهورية ديمقراطية قياسا على الديمقراطيات الشرقية –ألمانيا الديمقراطية.
ب. تبني سياسات الحزب الشيوعي السوداني واختيار 12 وزيرا من وزراء الحكومة الجديد من أعضاء الحزب الشيوعي بدليل أنهم كانوا من مرشحي الحزب الشيوعي في الانتخابات العامة التي أجريت في السودان في عام 1968م.
ج. حل جميع الأحزاب السياسية السودانية ومنظماتها الجماهيرية والإبقاء على منظمات الحزب الشيوعي لتكون قواعد جماهيرية للنظام الجديد وهي اتحاد نقابات السودان - اتحاد الشباب السوداني.
د. انحياز السياسة الخارجية للمعسكر السوفيتي والاعتماد على السوفييت في رسم خطة التنمية الخمسية (1970-1975م )والاعتماد عليهم في تكوين خطة البلاد الدفاعية والأمنية.
هذا الحالف لم يستمر طويلا لان الشيوعيون يعتبرون هذه التحالفات مع (البرجوازية ) مرحلية. بينما لم يعتبر قادة النظام أنفسهم مرحلة بل اعتبروا أنفسهم محطة الوصول التي استقرت عندها قافلة الحركة السياسية السودانية وطالبوا الشيوعيين بالانصهار في النظام الجديد الذي تبنى شعاراتهم ومنظماتهم الجماهيرية واستوزر رجالاتهم.
هذا الخلاف لم وقف فيه غالبية ضبا الانقلاب والناصريون ومن انحاز للانقلاب من رجالات الأحزاب الكبيرة في جانب ووقف معهم أفراد قياديون من الحزب الشيوعي. ووقف في الجانب الآخر الحزب الشيوعي السوداني. واحتد الصراع بين الاتجاهين وتصاعد إلى أن أنحسم دمويا في يوليو 1971م لصالح المجموعة الأولى.
بعد انتصار التحالف غير الشيوعي على الحزب الشيوعي تبنى المتحالفون سياسات ونظما ناصرية وصار النظام مؤسس شرعيته على الخط الناصري. والدليل على ذلك هو:-
إعلان ميثاق العمل الوطني وهو ميثاق ناصري المعالم.
تكوين الاتحاد الاشتراكي السوداني على شاكلة الاتحاد الاشتراكي العربي.
إقامة جمهورية رئاسية سودانية على نمط الرئاسة الناصرية بما ي ذلك خطة ترشيح رئيس الاتحاد الاشتراكي رئيسا الرئاسة الجمهورية وأن ((يستفتي )) الشعب للإجابة بنعم أو لا. وإعلان نعم أغلبية بنسبة عالية.
وفي حالتي الشرعية الشيوعية والشرعية الناصرية تبنى النظام سياسيات اقتصادية اشتراكية أكثر تطرفا من برنامج الحزب الشيوعي السوداني نفسه مزايدة علية وتنافسا معه في كسب تأييد الشارع اليساري السوداني.هذه المزايدة نصح بها المنشقون على الحزب الشيوعي لإحراج حزبهم وتجريده من ملابسه.
انطلق النظام مندفعا بالاشتراكية مزايدا بحماس وبلا عمق فكري ولا برنامج مدروس ممارسا اشتراكية القرارات الساخنة تأميما ومصادرة ومحاكمة "لأعداء الشعب" أخفت التجربة الاشتراكية السودانية إخفاقا كبيرا حتى صارت عبارة اشتراكية تعني في السودان النصب والاحتيال واكل أموال الناس بالباطل وجريد المعارضين من حقوقهم السياسية والاقتصادية باعتبارهم " ثورة مضادة".
هذا الإخفاق وما صاحبة من سياسات القمع زاد من كراهية النظام كراهية جسدتها انتفاضة شعبان في سبتمبر 73.
وفي عز إحساس النظام السوداني بإخفاق تجربته الاشتراكية وتعاظم الرفض الشعبي له استمع لنصح بعض رجال الأعمال السودانيين الذين اقترحوا عليه دعم موقفه بتبني شعار التنمية الاقتصادية وتوطيد شرعيته بأنه حامل عصا التنمية السحرية التي ستنقل السودان من الفقر إلى الرخاء.
وكان الغرب سعيدا بإخفاق التجربة الاشتراكية السودانية فساعد النظام السوداني على التوصل لحل سلمي لحركة المقاومة في جنوب السودان وتجاوب مع شعار التنمية الذي رفعه النظام، وكانت بعض الدول العربية المنتجة للنفط مستعدة لتشجيع الاستثمار في السودان لأسباب سياسية واقتصادية . فاندفع النظام السوداني مهللا بالتنمية وأعلن بأوسع الوسائل عن إمكانات السودان الطبيعية مؤكدا بان السودان سيكون سلة غذاء للعالم. أكدت أجهزة إعلام النظام أنه بحلول عام 1980م سيكون السودان قد هزم الفقر حقق التحول الاقتصادي العظيم.
وكما كان اندفاع النظام نحو الاشتراكية لا يصحبه إيمان بها أو استعداد لها بل أوجبته الحاجة إليها كوسيلة لدعم شرعية النظام فان الاندفاع نحو التنمية لم يصحبه إيمان بها أو استعداد لها بل أوجبته الحاجة إليها كوسيلة لدعم الشرعية . وطلب للشرعية دق إعلام النظام طبول التنمية فشهدت البلاد الأحجار الأساسية للمشروعات توضع قبل الدراسة المطلوبة. وشهدت افتتاح المشروعات يستعجل استعجالا مخلا ليلحق الأعياد والمناسبات وهلم جرا. وصل عام 1980م ولم تتحقق وعود التنمية.
التجربة الاشتراكية السودانية أخفقت ولم تحقق إلا نقائضها حيث زاد الظلم الاجتماعي في السودان واستقطبت الثورة بين قلة غنية ثراء فاحشا وكثرة فقيرة فقرا مدقعا. كذلك أخفقت التنمية وحققت نقائضها لأن النظام اندفع فيها بلا وعي ولا خطة مدروسة ولا كادر مؤهل. وضاقت معيشة المواطن السوداني فلولا اغتراب مليونين من السودانيين حيث وجدوا عملا وساهموا في إعاشة خمسة عشرة مليون مواطن سوداني.. لولا ذلك لبلغ السودانيين حد الكفاف وذلك للأسباب الآتية:
تدهور الإنتاج الزراعي حتى صار في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات نصف ما كان عليه في الستينات, تدهور الإنتاج الصناعي حتى إن المصانع الجديدة والقديمة صارت تعمل بما دون 25 % من طاقتها.
تدهور التجارة الخارجية نتيجة لفساد شركات القطاع العم التي احتكرت التجارة الخارجية فادى فسادها إلى بيعها للصادرات بأقل من أسعار المثل وشرائها للواردات بأكثر من أسعار المثل,
فساد التجارة الداخلية نتيجة لاستخدام توزيع المواد التموينية (كالسكر ودقيق القمح والزيت .. الخ) كوسيلة من وسائل استمالة الناس لتأييد النظام .هذه الإجراءات سمحت للمحظيين بالتلاعب في المواد التموينية وبيعها في السوق الأسود فنما السوق الأسود في السودان حتى عم التجارة الداخلية.
زيادة الصرف الحكومي لتغطية المصروفات السياسية والأمنية والدعائية دون مقابل في الإيرادات مما أدى إلى اعتماد الحكومة على الاقتراض من النظام المصري وطبع النقود الورقية لتغطية عجزها الداخلي. هذه الزيادات الورمية كانت على حساب قيمة الجنية السوداني.
الزيادة الورمية في حجم النقد المتداول، قلة الإنتاج والتضخم المالي، هي العوامل التي جعل قوة الجنية السوداني الشرائية في عام 1980م تبلغ حوالي 5 % من قوته عام 1970م.
دخل النظام عام ثمانين ( 1980م) وهو ضعيف الشرعية لأن ما جعله سندا لتلك الشرعية من مناهج وشعارات كالاشتراكية، والتنمية، والمصالحة الوطنية، وغيرها من الشعارات أخفقت ولم تحقق أهدافها.
وبالإضافة لفشل سياسات النظام فانه أخفق في أهم مسئوليات الحكم، فشل في كفالة معيشة المواطنين. ومع تراجع سياسات النظام واثر ذلك على شرعيته وضياع معايش المواطنين وأثر ذلك على الاستقرار فانتابت النظام هواجس الانقضاض عليه بأحد وسيلتين هما: الإضراب السياسي، أو الانقلاب العسكري.
أما الانقلاب السياسي قد كان علاج النظام لاحتمال حدوثه بالوسائل الآتية:
- توسيع التناقض بين الضباط والجنود لعرقلة أي عمل مشترك بينهم.
- إحاطة الضباط والجنود بوسائل منوعة من الاستخبارات.
- ضبط حركة تحركات القوات بدقة شديدة وضبط صرف الذخيرة الحية.
- خلق مجالات انتفاع خاص عن طريق شركات المؤسسة العسكرية الاقتصادية.
- تركيز قيادة القوات المسلحة في يد رئيس الجمهورية ومنع قيام قيادة موحدة للقوات المسلحة في مستوى قائد عام أو حتى في مستوى رئيس هيئة أركان.
وفي حالة إخفاق كل هذه الوسائل التلويح باتفاقية الدفاع المشترك مع مصر - الاتفاقية التي يعتبرها النظام تأمينا له ضد تحركات خصومه في الداخل.
أما الإضراب السياسي فقد قرر النظام مواجهة كل إضراب أو تحرك قد يؤدي إليه بالعنف الصارم كما حدث في مواجهة إضراب نقابة السكة الحديد في عام 1980م وكما حدث في مواجهة أحداث يناير 1982م. استعدادا لهذا القهر وسع النظام قوات الأمن حتى صارت واسعة الانتشار للتجسس ومسلحة لتكون قوة ضاربة . كما أعد النظام قوة سماها الاحتياطي المركزي لمواجهة المظاهرات في الشار ومن وراء هذه القوات الضاربة تقف القوات المسلحة السودانية .
ووضع النظام أجهزة القمع وقوانين القمع، لقد اضطر النظام للاتفاق مع حركة المقاومة الجنوبية في مارس 1972م ومن شروط الحركة إدخال بعض الحقوق والحريات في النظام السياسي فوافق النظام وأدخلها في دستور 1973م الذي أجازة. ولكن النظام فيظل الدستور الجديد واجه حركتين ضده واحدة شعبية في أواخر 1973م والثانية عسكرية في أواخر 1975م لذلك قرر نقض الحريات التي أتاحها الدستور وأزال منه عددا من الحقوق والحريات, هذا التشدد أدى إلى انتفاضة يوليو 1976م التي كادت أن تنجح في الإطاحة بالنظام.
لقد وجد النظام أنه إذا أعطى مقدارا من الحريات يواجه انتفاضة شعبية وإذا منع الحريات واعتمد على القهر يواجه حركة عنف, ولكنه استمر يواجه هذه الانتفاضات والحركات دون أن يقوم بمحاولة جادة لإزالة أسبابها. المحاولة الجادة الوحيدة كانت مبادرة المصالحة الوطنية ولكن اتضح أنها لم تكن جادة.
وفي عام 1982 بعد آخر انتفاضة شعبية وقعت في يناير 1982م أصدر النظام قانونا قمعيا جائرا سماه قانون الطمأنينة إضافة إلى قانون أمن الدولة لتقوية القبضة القانونية على الشعب. وقانون الطمأنينة هذا شبيه بقانون العيب الذي استنه الرئيس المصري أنور السادات وهو قانون فضفاض ويمكن في نظره أن يكون أي عمل مهما كان بريئا جريمة تستحق العقاب.
ورغم التعديلات الدستورية المتشددة والقوانين القمعية المتعددة فان تطبيق القوانين بواسطة الهيئة القضائية يضعف من قبضة النظام على الشعب إذا كانت الهيئة القضائية تؤثر عليها مفاهيم العدالة وكرامة المواطنين .وبدا للنظام أن الهيئة القضائية تشكل عائقا في سبيل فرض استحكاماته الأمنية خاصة بعد أن دخلت الهيئة القضائية في نزاع مطلبي مع النظام وخرجت منه منتصرة في عام 1981م. كان من بين قضاة الهيئة القضائية السودانية لجنة نظمت مواجهة في نزاع مطلبي مع النظام في عام 1981م. وعرفت تلك اللجنة باسم لجنة دار القضاة لأنها كلفت بالإشراف على تأسيس دار للقضاة. ووضع القضاة بقيادة اللجنة دستورا للدار نص على أن من واجب القضاة المحافظة على استقلال القضاء وحماية حريات المواطنين.
إن في التزام القضاة كجماعة بالدفاع عن استقلال القضاء وبحماية حريات المواطنين جسارة لا يمكن أن يسكت عليها نظام يرد أن يسخر كل أجهزة الدولة وعلى رأسها القضاء لبسط سلطاته وإسكات معارضيه لذلك لم يكن مستغربا أن يدخل النظام في مواجهة أخرى مع الهيئة القضائية.
بدأت المواجهة في يونيو 1982م عندما هاجم رئيس الجمهورية في خطاب علني القضاة وحملهم مسئولية تعطيل مصالح الناس وعدم الفصل في القضايا والانغماس في الشهوات. وأعلن أنه سوف يصلح هذا الفساد وأول خطوة نحو الإصلاح طرد 42 قضيا من الخدمة, وأنه سيلحق بهم آخرين حتى يطهر صفوف الهيئة القضائية. كان من بين هؤلاء القضاة المطرودين 25 قاضيا حامت حوله شبهات. ولكن البقية وهم 17 قاضيا كانوا هم أعضاء لجنة دار القضاة المقصودين أصلا بالطرد. لم تمتثل الهيئة القضائية لهذه الإساءة ولا للطرد وواجه القضاة النظام موحدين فاضربوا عن العمل ثم قدموا استقالات جماعية وصمدا على موقفهم لمدة ثلاثة شهور. حاول النظام الانقضاض على القضاة كما فعل بنقابة السكة حديد وأعلن عن قبول الاستقالات وفتح الباب لتوظيف قضاة من أربا المعاشات من " أفاضل الناس " للحلول محل القضاة المستقيلين. هذه الخطة فشلت فلم تضعف عزم القضاة ولم يتقدم أرباب المعاشات للحلول محلهم . ووقف الرأي العام السوداني مع القضاة وأيدتهم القوى السياسية ودعمتهم نقابة المحامين أدبيا وماديا.
حاول النظام استجلاب قضاة مصريين للسودان فوقفت الهيئة القضائية المصرية ضد ذلك وانتشر أمر القضاء السوداني وعرف الذين في كل مكان أن ركنا من أركان الدولة السودانية قد انهار. وصار لموقف القضاة إعلام قوي داخل السودان خارجه وعقدوا ندوات مفتوحة ومستمرة في دار نقابة المحامين فاقبل القانونيون السودانيون عليها وأقبل معهم جماعات من المواطنين … هكذا تكونت نواة نشاط متزايد فصار الناس يتوقعون اتساعه حتى يؤدي لإضراب سياسي شامل. ومع ظهور احتمالات الإضراب السياسي قرر النظام أن يتراجع ولكن لكيلا يظهره التراجع بمظهر الضعف فتتحرك ضده النقابات الأخرى قرر النظام أن يغطي تراجعه بافتعال موقف هجومي. أما التراجع فقد اختار النظام وسيلته إليه وذلك بتعيين لجنة للنظر في مطالب القضاة على رأسها أحد القضاة الكبار المعروفين بتأييده للمطالب. فأوكل النظام للجنة مهمة في المطالب لتضع توصياتها فيقبلها ويكون بذلك قد وضع حدا للمواجهة مع الهيئة القضائية.
أما التحرك الهجومي الذي يغطي التراجع فقد كانت وسيلته كالآتي:
كان رئيس الجمهورية قد التقى بقانوني أسمه النيل عبد القادر أبو قرون في إحدى المناسبات الصوفية، وعرف إن له توجها إسلاميا دون ارتباط بأي تنظيم فأرسل في طلبه وكلفه بوضع تشريعات إسلامية وإصلاحات قانونية ليصدرها رئيس الجمهورية بأوامر مؤقتة .معلنا بذلك " ثورة قضائية " لتحقيق العدالة الناجزة ومعلنا تطبيق الشريعة الإسلامية ومتخذا من التطبيق الإسلامي والعدالة الناجزة منبرا لمحاربة الفساد.
عكف السيد النيل عبد القادر أبو قرون على مهمته العاجلة وطلب الاستعانة بصديق له وصفه بأنه أقدر منه على هذه المهمة هو السيد عوض الجيد فسمح له بالاستعانة به . فأعدا القوانين اللازمة ووضعا ما اعتبراه خطة لتطبيق الشريعة الإسلامية. وأبلغا رئيس الجمهورية بما أنجزا ووضع توقيتا مناسبا لإعلان قبول توصيات لجنة القضاة وإعلان الثورة القانونية الجديدة التي ستغطي تراجعه أمام القضاة وتضعه في موقف المبادرة والهجوم – عصا موسى التي تلقف ما يأفكون.
هذه القرارات التي كشفنا عن ظروفها هنا فاجأت السودانيين جميعا بل فاجأت أعوان النظام أنفسهم. ورغم هذه الحقيقة حاولت أجهزة الآلام أن تدعي أن ما حدث كان متوقعا وكامنا في وثائق النظام وسياساته المعلنة ولم يكن وليد لحظاته وظروفه.
الدليل على أن القرارات مفاجئة ووليدة لحظتها استدل على ذلك بالحقائق الآتية:
منذ بداية مفاوضات المصالحة الوطنية في عام 1977م كان رئيس الجبهة الوطنية (السيد الصادق المهدي) يطالب بإجراء تعديلات في الدستور على أساس إسلامي وعلى أساس ديمقراطي ,ومع أن الطلب لم يرفض بل حدث له ما حدث لبقية بنود المصالحة من تجميد وظل الدستور دون التعديل الإسلامي المطلوب. لقد قرر النظام عدم إجراء أي تعديلات في الدستور.
عين رئيس الجمهورية لجنة لمراجعة القوانين السودانية لتتفق مع الأصول الإسلامية برئاسة السيد حسن الترابي. وظلت هذه اللجنة تعمل منذ عام 1977م ووضعت برامجها وتوصياتها واختارت أسلوبها المتدرج في اسلمة القوانين السودانية. وعندما قرر النظام خطته المفاجئة تخطى هذه اللجنة وتوصياتها لأنه لم يكن يعاملها بجدية.
نشر رئيس الجمهورية كتابين الأول سماه النهج الإسلامي لماذا؟ (1981م) والثاني سماه النهج الإسلامي كيف؟ (1982م). وفي الكتابين يتحدث المؤلف عن الإسلام كتراث والإسلام كتربية والإسلام كقدوة حسنة ولا يتناول الإسلام كشريعة وأساس للقانون بل يعتبر ذلك من مسئوليات الأجيال القادمة. إذا جاز لنا توضيح هذه النقطة نقول أنه تحدث في كتابيه عن الإسلام كما تدعو إليه جمعية الشبان المسلمين ف يمصر والفرق بين الاثنين أن نظرة الأولى تربوية ونظرة الثانية تشريعية. لقد انتقل رئيس الجمهورية بموجب القوانين الجديدة من النهج الإسلامي كما قدمه في كتابيه إلى تطبيق فوري لاحكام إسلامية وكان الانتقال مفاجئا.
لقد كان التوجه الجديد مفاجئا لأنه يتعارض مع الدستور الدائم الذي وضعه النظام والدلائل على ذلك متعددة نذكر منها:
أولا: الدستور يذكر الإسلام في لمادة 9 وتنص المادة على أن الشريعة الإسلامية والعرف مصدران رئيسيان للتشريع. فهنا مساواة بين الشريعة والعرف وهم لا يجبان المصادر الأخرى.
ثانيا: الدستور يذكر الإسلام في المادة 16 وهذه المادة تجعل السودان قطر ثلاثي الديانة: الإسلام، والمسيحية، وكريم المعتقدات (أي الأديان الوثنية). وتلزم المادة 16 الدولة بالتعبير عن قيم هذه الأديان (الإسلام والمسيحية).
وكان التوجه مفاجئا لأنه لا ينسجم مع وثيقة النظام السياسية الأساسية – ميثاق العمل الوطني – والدلائل على ذلك متعددة نذكر منها:
أولا: النبرة الأساسية في الميثاق أنه اشتراكي ووطني ولا ذكر للإسلام إلا باعتباره تراثا روحيا ان الثورة الاشتراكية الوطنية سوف تحرر المجتمع وتحقق تقدما روحيا وفكريا وماديا)
ثانيا: التحليل الأساسي الذي ينطق به الميثاق للأوضاع السياسية والاقتصادية تحليل ماركس إذ جاء فيه: ولم تكن الحرية ذات يوم من الأيام ومن الناحية العملية ذات مفهوم مجرد..فقد ارتبط مفهومها في كل العهود بمصالح القوى الاجتماعية السائدة ) .
ان صورة المجتمع – أي مجتمع – إنما يشكلها في الأساس نمط الإنتاج الاقتصادي) .
ثالثا: وأهم حدث إسلامي في تاريخ السودان: الثورة المهدية يعتبرها الميثاق حدثا وطنيا إذ جاء فيه: كانت المهدية تحالفا وطنيا رائعا. لقد تركت لنا المهدية حصيلة ثرة من التجارب الوطنية) .
رابعا: ومن أعصب صبوات الميثاق ودلائل انحيازه لفكر بعيد عن الإسلام انه تحث عن تنقية عقائد المواطنين قائلا: وان تتحرر عقائدهم من الشوائب التي علقت بجوهر الديانات السماوية التي جاءت لتكمل سيادة الإنسان وتعز حريته حتى يكون الدين خالصا نقيا وخالصا لله الذي خلق الإنسان على صورته !! )
وكان التوجه مفاجئا لأنه يتعارض مع التنظيم السياسي الذي أقامه النظام – الاتحاد الاشتراكي السوداني – هذا التنظيم مستمد في تكوينه ومفاهيمه ونظمه من أصول ماركسية لينينة نذكر منها:
أولا: ان الطبقة الاجتماعية تحدد الانتماء السياسي. لذلك فان الطبقات المتحالفة في الاتحاد الاشتراكي ذات مبدأ سياسي واحد وهم أعداء للطبقات الأخرى التي يجبرها موقعها الطبقي أن تقف ضد التقدم. هذا الشرح واضح في الميثاق وفي النظام الأساسي للاتحاد الاشتراكي.
ثانيا: ان الطبقة أو الطبقات التقدمية تقيم الديمقراطية فيما بينها وتفرض على الطبقات الأخرى ديكتاتورية. لذلك فالاتحاد الاشتراكي يسمح لقوي التحالف بممارسة الديمقراطية في داخله ويحرم الطبقات الأخرى من حقوقها السياسية.
ثالثا: ان الطبقات التقدمية ذات المصلحة الواحدة محتاجة لتنظيم سياسي لتؤدي بقيادته دورها التاريخي. هذا المفهوم واضح في النظام الأساسي للاتحاد الاشتراكي.
جاء في الفصل الثاني من النظام الأساسي ان الاتحاد الاشتراكي يهدف إلى توحيد قوى الشعب العاملة للحفاظ على مبادئ ثورة مايو ودفع العمل الثوري وقيادته وبناء السودان الاشتراكي الواحد وفق ميثاق العمل الوطني.)
ان دستور السودان الحالي. وميثاق العمل الوطني، والاتحاد الاشتراكي هي مؤسسات ووثائق النظام السوداني الحاكم الأساسية وواضح أنها قليلة الصلة بالإسلام لذلك فوجئ السودانيون عندما أعلن النظام توجها إسلاميا ولم يصدقوا النظام عندما حاول الادعاء بان توجهه الإسلامي الجديد كامن في وثائقه الأساسية. لم تكن وثائق النظام الأساسية ولا ممارساته المشهودة تبشر بنزعة إسلامية واضحة.
أما الممارسات فنستدل بالآتية:
أولا: غالبية قادة العمل السياسي في النظام عرفوا باتجاهات سياسية وفكرية غير إسلامية وسلوك اجتماعي جيد عن خلق الإسلام.
ثانيا: أشرف رئيس الجمهورية على زواج أحد أعوانه من المسيحيين من سيدة مسلمة في عام 1973م, وهذا الرجل ما زال مقربا وفي أعلى المناصب السياسية )
ثالثا: قرر رئيس جمهورية السودان تحويل أكبر مسجد في أم درمان إلى ساحة سماها ساحة الشهداء وقام نصبا عليه تصاوير منحوتة وأقام في ساحاته ميادين. واعترض المسلمون في السودان على هذا الإلغاء لمسجد أم درمان العتيق ورفع بعضهم قضية حسبة في محكمة ام درمان الشرعية مطالبين بالنظر في هذا الأمر. فنظرت محكمة أم درمان الشرعية في القضية وقررت أنه لا يجوز شرعا إلغاء مسجدية بيوت الله ولا يجوز تحويلها لأي غرض آخر وأمرت بأصالة النصب وبتعمير المسجد بيتا من بيوت الله. ولكن رئيس جمهورية السودان لم يعبأ بقرار المحكمة الشرعية بل أصدر أمرا في مايو 1984م بإيقاف تنفيذ قرار المحكمة الشرعية.
رابعا: رئيس جمهورية السودان هو ثاني اثنين من بين رؤساء وملوك البلاد الإسلامية أيدوا اتفاقية كامب دافيد وما أقامت من صلح ثنائي بين مصر وإسرائيل ف عام 1978م. الأمة الإسلامية مجمعة على عدم جواز عقد صلح مع عدو مازال يحتل القدس ويشرد شعب فلسطين ويعتدي على دماء وأموال المسلمين وشاهدهم في ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
خامسا: أجهزة إعلام النظام ما برحت تكذب في كل صغيرة وكبيرة حتى صار الكذب عادتها وصار الناس يصدقون نقيض ما يعلن عليهم والكذب ليس من صفات المؤمنين.
كل هذه الحقائق تؤكد أن النظام السوداني قد تصرف تصرفا مفاجئا عندما أعلن التوجه الإسلامي الأخير ليستعين بالخط الإسلامي في دعم موقفه المترنح وفك الأزمة السياسية التي أحاطت به.
التردد بعد الإعلان:
لم يدرس النظام آثار التشريعات الإسلامية على الجنوب ولا على كيان النظام الداخلي ولا على علاقاته الخارجية. لذلك وجد نفسه بعد إعلان القوانين الإسلامية يواجه نقدا شديدا من ثلاث جهات هي:
أعوان النظام في الداخل وأصدقاؤه في الخارج الذين اطمأنوا لسياساته قبل التوجه الإسلامي فاستنكروا هذا التوجه وانتقدوا المفاجأة به.
قاعدة الحركة الإسلامية السودانية الأساسية التي استنكرت استغلال الشعار الإسلامي في المناورات السياسية وانتقدت التطبيق المجزأ لاحكام الإسلام.
اللبراليون والعلمانيون واليساريون السودانيون المعارضون أصلا لتطبيق الأحكام الإسلامية.
هذا المواقف مع اختلاف منطلقاتها صبت في اتجاه واحد ناقد ولكي يطمئن النظام أعوانه في الداخل وأصدقاءه في الخارج قرر أن يخطو ف اتجاه مضاد لاتجاه القوانين الإسلامية. والدليل على هذا التراجع هو:-
أولا: خطاب عيد الاستقلال في 31 /12 /1983م ألقى رئيس جمهورية السودان خطابا بمناسبة الاحتفال لذكرى استقلال السودان وكان متوقعا أن يعلن عن التعديلات الأساسية التي سيدخلها النظام على مؤسساته وسياساته للتتماشى مع الاتجاه الإسلامي، ولكنه أعلن في ذلك الخطاب صرف النظر عن أي تعديلات قائلا: "النهج الإسلامي في السودان لن يكون على حساب الدستور روحه ونصوصه. فما تعارض الدستور معه وانما أعان الدستور على تقدمه".
وقال: "النهج الإسلامي لن يكون على حساب التنظيم السياسي الواحد الاتحاد الاشتراكي العظيم بمواثيقه ورموزه ومؤتمراته ومنظماته".
ثانيا: قرارات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي السوداني في فبراير 1984م.
أصدرت اللجنة المركزية قرارات أوضحت فيها الخط السياسي للفترة المقبلة تحاشت فيها الإشارة للخط الإسلامي.
وكان واضحا أن خطاب الاستقلال وقرارات اللجنة المركزية صادران عن اتجاه واحد مال إليه وعبر عنه رئيس الجمهورية هو اتجاه أرضاه أعوانه في الداخل وأصدقاؤه في الخارج. فاطمأن قادة الاتحاد الاشتراكي بعد هذا التراجع لموقفه واطمأنوا أن القرارات الإسلامية لم تكن سوى مناورة مؤقتة سيعود النظام بعدها لحالته المعروفة.
أما الحركة الإسلامية السودانية فقد أكد لها التراجع صحة موقفها وصحة طعنها في جدية توجه النظام السوداني نحو الإسلام وأصدرت بيانات عديدة تشير إلى هذه الحقيقة وتوضح أن تراجع النظام كان منتظرا.
التراجع عن التراجع:
في بداية عام 1984م وجد النظام نفسه في موقف عصيب جدا فالرأي العام السوداني يهزأ به لتردده والذين أيدوه في توجهه الإسلامي يشعرون بأنهم راحوا ضحية مناورات. والحركة المطلبية بعد إرضاء القضاء انتقلت للأطباء وتوشك أن تنتقل للمحاسبين والصيارفة والمهندسين وهلم جرا . فكيف يواجه هذا التيار المطلبي وهو مفلس ماليا ومفلس معنويا بما ظهر من تردد ف خطه السياسي والفكري؟
راجع النظام موقفه فقر أنه مهما كانت الصعوبات فان تراجعه من الخط الإسلامي يلحق به أضرارا جسيمة لذلك قرر النظام مواصلة الخط الإسلامي بنفس الأسلوب الفوقي الذي بدأ يه. فأصدر قانون المعاملات المدنية بأوامر مؤقتة في فبراير 1984م وأصدر قانون ديوان الزكاة والضرائب في مارس 1984م بأمر مؤقت.
هذا السيل من القوانين انهمر من رئاسة الجمهورية بعيدا عن مناقشة مجلس الشعب وبعيدا عن مناقشة الرأي العام السوداني فواجهه السودانيون بالحيرة والدهشة لما لهذه المسائل من أهمية توجب الشورى والنقاش المستفيض.
ورغم كثرة القوانين الجديدة فان طريقة منها لم تشد انتباه الناس إليها ولم تقنع الرأي العام السوداني بجدية النظام بل طغت عليها الأزمات الداخلية . وكان أقواها في مارس 1984م أزمة إضراب الأطباء ذلك الإضراب الذي استمر لمدة ثمانية أيام ثم قدم الأطباء السودانيون استقالات جماعية في 24 مارس 1984م.
في البداية حاول النظام إهمال إضراب واستقالات الأطباء ، ثم بدا الموقف يؤثر في الحالة الصحية ف السودان وشاع أن منظمة الصحة العالمية سوف تعلن السودان منطقة موبوءة. فقرر النظام أن يتصدى للأطباء بالعصا الغليظة فأعطاهم إنذار لمدة 72 ساعة وأعلن أنهم إذا لم يعودوا للعمل فسوف يواجهون محاكمات عنيفة ترقى للسجن المؤبد والإعدام. واعتقل النظام لجنة الأطباء وعددا من الأطباء القياديين. وتأزم الموقف وأيدت القوي السياسية الأطباء وايدهم عدد من النقابات المهنية وبدأ موقف الأطباء سيكون شرارة للإضراب السياسي العام.
وبدأت مواجهة بين النظام ونقابة المهندسين وكانت هنالك مواجهة بين النظام ونقابة المحاسبين والصيارفة مواجهة استمرت مدة طويلة ثم انتهت إلى إضراب نقابة المحاسبين والصيارفة في يوم 23 أبريل 1984م وهي نقابة كبيرة عضويتها 14 ألف شخصا.
وقبل إضراب نقابة المحاسبين والصيارفة مباشرة تنازل النظام تنازلات أدت إلى عودة الأطباء للعمل. وفي أواخر شهر أبريل وجد النظام نفسه أمام المشاكل الآتية:
حركات إضراب مطلبيه تتخللها معان سياسية حركات تتسع يوما بعد يوم والنظام عاجز عن حلها لأنه لا يملك القدرات المالية لارضاء مطالب العاملين ولا يستطيع إيقاف تردي الخدمات ولا يستطيع إيقاف الارتفاع الجنوني المستمر في الأسعار.
حركة ثورة في الجنوب أدى إليها تردي الأوضاع الاقتصادية هناك. وخرق النظام لاتفاقية السلام بإقدامه على تقسيم الإقليم الجنوبي بالأمر الجمهوري, وزاد من جدتها اندفاع النظام في إصدار أحكام إسلامية دون التمهيد لذلك باتفاق يوضح للاقليات غير المسلمة كيفية حماية حقوقها المدنية وحرياتاتها الدينية.
وفوجئ النظام بأن القوانين الجديدة التي أصدرها تتعارض مع نصوص الدستور وتقدم عدد من المواطنين للطعن أمام المحاكم في دستورية هذه القوانين. لقد فات على النظام أثناء عجلته في إصدار القوانين "الإسلامية " ان يضع أساسها الدستوري. ولا يستطيع النظام الخروج من هذا المأزق بإجراء تعديل في الدستور بأوامر مؤقتة فانفضح التناقض بين الدستور والقانون. وحاول النظام معالجة هذه المشاكل بوسائل سياسية وإدارية فحاول تعطيل النظر في القضايا الدستورية. وانتهز فرصة أن العمال لم تكتمل تنظيماتهم النقابية بعد وتنبه للتنافس المعروف بين النقابات المهنية النشطة في حركة الإضرابات وبين النقابات العمالية فذهب يلاطف النقابات العمالية لكيلا تنفع بدافع مشاكله المعيشية في حركة الإضرابات . وأعلن عن تكوين لجنة لمراجعة الأجور والمرتبات لمواكبة ظروف المعيشة. لجنة للتسكين فقط لأنها كلفت بمراجعة هيكل الأجور والمرتبات وباقتراح مصادر الإيرادات اللازمة لتمويل الصرف الحديد وهي مهمة متسحيلة لأن مصادر إيرادات جديدة غير موجودة. اتضح للنظام ان وسائله السياسية والإدارية غير كافية لمواجهة الأزمات المتصاعدة التي تواجهه ، لذلك فاجأ الجميع بإعلان حالة الطوارئ في السودان في يوم 29 أبريل 1998مم .
لماذا أعلنت حالة الطوارئ ؟
للأسباب الآتية:
- لمواجهة موجة الإضرابات القائمة والقادمة بصرامة.
- للتخلص من خرج التناقض بين الدستور والقوانين الجديدة
- لغرض خط واحد على رجالات النظام لأن انقساماتهم شاعت وانكشفت.
لاحتواء آثار الموقف المتردي في الجنوب فقد تعرض النظام لهزائم في كل المواجهات التي حدثت لدرجة تعطيل مشروعات التنمية الكبيرة بالجنوب (التنقيب عن البترول وحفر قناة جونقلي) ولدرجة تعطيل المواصلات بين الشمال والجنوب لفرض نظام إيجازي استثنائي على القضاء بواسطة محاكم الطوارئ فتساعد على ترويع لمواطنين وتخدم أغراض النظام الأمنية.
ولكيلا تظهر إجراءات الطوارئ على حقيقتها ألبسها النظام لباس الجدية في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ولباس التصدي للفساد الإداري والمالي والخلقي الذي تردت فيه البلاد خمسة عشر عام (هي عمر النظام) دون حسيب أو رقيب.
لا تستطيع أي كمية من الإعلام الزائف أن تخفي على الناس أن النظام يستخدم حالة الطوارئ لقهر المواطنين ويستخدم شعار الإسلام لإضفاء قدسية على إجراءات الطوارئ الإيجازية المتعسفة, ويستغل كل هذه الإجراءات لاجبار المواطنين على الامتثال لحكم الفرد المطلق الواضح لكل ذي عينين. نذكر شاهدا عليه الحقائق التالية:
أعلن النظام السوداني أحكاما إسلامية في قانون العقوبات بتاريخ 15 سبتمبر 1983م وبعد شهرين من ذلك الإعلان اجتمع رئيس الجمهورية بقادة قيادات القوات المسلحة السودانية في نوفمبر 1983م وقال لهم باعلان تلك الأحكام صار الحكم حاكما بأمر الله وصارت طاعته من طاعة الله ومخالفته في أي أمر مهما كان صغيرا مخالفة لله.
بعد الفراغ من إصدار القوانين والأحكام الإسلامية التي سنفصلها فيما بعد وبعد أسبوعين من إعلان حالة الطوارئ أخذا رئيس الجمهورية البيعة لنفسه إماما للمسلمين بيعة لم يسبقها تمهيدا ولا شورى بل فرضت على الحاضرين في قرية أبي قرون عندما ذهبوا لاحياء ليلة النصف من شعبان 1404 هـ الموافق 17 مايو 1984ممم.وورد في البيعة السمع والطاعة للرئيس المبايع على أن يقيم الدين ويمارس العدل والشورى ويسمع النصيحة . أما السمع والطاعة فنه كفيل بفرضها على مبايعيه أما العدل والشورى والنصيحة فلا توجد مؤسسات ولا تقاليد لممارستها بل التقاليد الموجودة هي تقاليد حكم الفرد المطلق ومنذ أن أخذ رئيس الجمهورية لنفسه البيعة بالأمر الواقع وبالإكراه اشتد انفراده بالسلطة وتحويل البيعة بالأمر الواقع اشتد انفراده بالسلطة وتحويل جميع معاونيه إلى مشاهدين لا يعرفون من خططه ونواياه شيئا ولا يجرؤ أحدهم أن يسأله. بل صار يعتقد أنه وصل مرتبة الاجتهاد فيطالع المصادر ويقرر في أهم الأمور لا يساهم معه الآخرون إلا بالصياغة الفنية والتنفيذ.
وبعد أن فرضت البيعة على تجمعات مختارة من عمال ومزارعين وقوات مسلحة وغيرها من المواطنين وفي قمة ظروف الطوارئ التي سلطت سيفا على رقاب المواطنين أرسل رئيس الجمهورية لمجلس الشعب في العاشر من يونيو 1984م مطالبا بتعديل الدستور تعديلات سنحلله في مجال لاحق ولكن نكتفي هنا بذكر تعديل واحد يلغى الدولة الحديثة والجمهورية في السودان لانه يقتضي أن يكون السيد جعفر محمد نميري رئيسا وإماما مدى حياته وأنه هو الذي يعهد لمن يخلفه وعلى الناس مبايعته هو للحكم مدى الحبة الالتزام بمبايعة الشخص الذي يختاره لخلافته!!
إن الإجراءات الإسلامية التي أعلنها وسار فيها النظام الحاكم في السودان وسيلة التمسها نظام فاشل سياسيا واقتصاديا, واجتماعيا ودوليا لفك الحصار على نفسه وإيجاد شرعية إسلامية لحكمه بعد أن فاتته الشرعية الاشتراكية وسائر الشعارات الأخرى ان النظام الحاكم في السودان ينادي بالإسلام كوسيلة لدعم حكم الفرد المطلق لكي يمارس الاستبداد باسم الله سبحانه وتعالى.
لذلك ولأن هذه الأغراض مكشوفة لم يستحب أهل السودان "للتجربة الإسلامية السودانية" الحالية – ولم يؤيدها إلا من كانوا يؤيدون النظام أصلا.
كذلك لم يحفل بالتجربة الإسلامية السودانية المسلمون في أقطار الأرض بل هذه صحفهم ومجلاتهم تكاد تجمع على أمرين أما انتقاد ما يحدث في السودان باسم الإسلام واما إهمال ما يحدث في السودان باسم الإسلام. هذا عن موقف أدوات الإعلام الإسلامية من صحف ومجلات. أما أدوات الإعلام الأخرى اللبرالية واليسارية والعلمانية والقومية فقد كان وقفها أيضا بين ناقدين للتجربة لمهملين لها.
ويهمس الذين يهملونها من علمانيين بأنهم يريدون للتجربة السودانية الإسلامية أن تستمر لكي تفشل الفشل الذريع المتوقع ويسقط نهائيا الشعار الإسلامي في السودان!!
لقد أعدت التجربة الإسلامية السودانية كل عدة فشلها الذريع فقسمت مؤيديها. وقسمت دعاة الإسلام ضدها. وعزلت نفسها من الحركة الإسلامية العالمية ,وأثارت ضدها المسيحية العالمية والشرق الغرب. ولكن لنفرض أن التجربة السودانية لم تعد العدة لفشلها وأنها جادة في تطبيق أحكام الإسلام فما هي القيمة الموضوعية لما أعلنت من أحكام؟ وما هي قيمة أحكامها بمقياس الإسلام؟
ضوء على القوانين الإسلامية السودانية
تتكون التجربة من الإسلامية من الأحكام والقوانين والإجراءات الآتية:
قانون العقوبات لعام 1983م الصادر في سبتمبر 1983م.
قانون أصول الأحكام الصادر في سبتمبر 1983م.
قوانين إجرائية وتنظيمية صادرة في سبتمبر 1983م هي: قانون الإجراءات الجنائية، قانون الإجراءات المدنية. قانون مجلس القضاء العالي، قانون الهيئة القضائية ، قانون النائب العام. قانون المحاماة.
قانون المعاملات المدنية الصادر في فبراير 1984م.
أخذ البيعة لرئيس الجمهورية إماما للمسلمين في قرية أبي قرون بينما كان يحضر احتفال النصف من شعبان 1404 هـ (مايو 1984م).
تقديم تعديلات للدستور في يوليو 1984م لمواكبة الخط الإسلامي.
وفيما يلي سوف نوضح الخطأ الذي وقع فيه كل واحد من هذه الإجراءات والأحكام، ولكن قبل أن نتناول كل واحد منها على حدة سنذكر العلل المشتركة التي لحقت بهذه الأحكام والإجراءات.
العلة الأولى: التعارض مع الدستور القائم عندما أوشك السودان أن يتخذ دستورا إسلاميا في عام 1967 كان الدستور هو مدخل إقامة النظام الإسلامي. وهذا هو المدخل كما تراه حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة لكي يأتي القانون مؤسسا على الدستور ولا يكون القانون عديم الجدوى بتعارضه مع الدستور. ولكن النظام الحاكم في السودان كان يريد رفع الشعار الإسلامي واعلان التطبيق الإسلامي بسرعة تقتضيها ظروفه السياسية وأداته لتحقيق ذلك هي الأوامر المؤقتة فاندفع يصدرها تاركا الدستور على ما هو عليه حتى فكر في تعديله كما سنذكر في يونيو 1984م.
ان لمجلس الشعب حقا دستوريا في مناقشة و إجازة القوانين ورغم أن مجلس الشعب في النظام الحالي في السودان أداة مطيعة للحاكم إلا أنه وسيلة مشاركة مهما كانت مشوهة. والدستور يحمي وظيفة مجلس الشعب التشريعية ولا يجوز بنص المادة 106 منه إصدار القوانين بأوامر مؤقتة إلا في حالة استثنائية، في حالة غياب المجلس وفي حالة نشوء ظرف هام ومستعجل.
هذه القوانين صدرت بأوامر مؤقتة مع وجود مجلس الشعب ولا ينطبق عليها وصف نشوء ظرف هام ومستعجل.
المادة 16 من الدستور تصف السودان بأنه ثلاثي الديانة الإسلام دين الأغلبية، والمسيحية، وكريم المعتقدات (إشارة للأديان الوثنية) وتلزم المادة الدولة باحترام هذا الواقع والسعي للتعبير عن قيم هذه الأديان. هذا يتعارض مع انطلاق القوانين من الإسلام وحده .
المادة 9 من الدستور تنص على وجود مصدرين رئيسيين للتشريع في السودان هما الشريعة الإسلامية والعرف، فالشريعة والعرف متساويان ومعهما مصادر أخرى. اتجاه القوانين الجديدة مختلف عن هذا.
المادة 38 من الدستور تحظر التفرقة بين السودانيين بسبب الدين، لكن القوانين الجديدة تنص على تفرقة. إلى أخر البنود الكثيرة الأخرى التي يقع فيها تعارض بين دستور علماني في الأساس مع قوانين تتخذ اتجاها إسلاميا.
العلة الثانية -التخليط:
إن الشريعة الإسلامية الثابتة في نصوص الكتاب والسنة ومقاصدها واسعة جدا. ولكن الفقه الذي نما في أحضانها تاريخيا محدود بفهم الرجال وظروفهم. وقد أثمر فهم الرجال تاريخيا مذاهب فقهية محددة. والمسلم المعاصر أمامه في مجال الأحكام شيئان محددان:
تراث الفقه المذهبي والقانون الوضعي السائد في كثير من البلدان الإسلامية.
أما من أراد أن يطبق أحكاما إسلامية الآن فأمامه خياران: أن يختار تطبيق الراجح من أحد المذاب المعروفة مثلما هو الحال في السعودية حيث يطبق في الأحكام الراجح من مذهب الأمام أحمد بن حنبل، أو أن يقرر العودة للكتاب والسنة والاستنارة بالمذاهب واجتهاداتها واستصحاب النافع من القوانين الوضعية والقيام باجتهاد جديد لاستنباط أحكام إسلامية وعصرية.
المشروع السوداني لم يلتزم تقليد مذهب أو مذاهب من المذاهب المعروفة ولم يقم باجتهاد جديد ليأتي بنسيج جديد إسلامي وعصري ولكنه أصدر أحكاما وقوانين بعضها من أصل فقهي وبعضها من أصل وضعي وخلطها مع بعض خلطا مضطربا فاهدر العدالة إسلاميا ووضعيا, وسنضرب لهذا التخليط الامثال الآتية:
القانون الوضعي يقول بنظرية القصد المشترك في ارتكاب الجريمة لذلك يحمل الأشخاص المعنيون بالقصد المشترك عقابا متساويا حتى لمجرد التحريض. النظريات التي يقول بها جمهور الفقهاء لا تقول بالقصد المشترك بل حيثما وقعت جريمة مشتركة يبحثون عن دور كل واحد من الجناة ويعاقبونه على ما فعل وأن لم يفعل شيئا كان مجرد محرض فان هذا يحفف عليه العقوبة عندهم تخفيفا كبيرا . القانون السوداني لسنة 1987م كما في المادة 78 يقول بنظرية القصد المشترك في الأفعال المشتركة: إذا أرتكب عدة أشخاص فعلا جنائيا تحقيقا لقصد مشترك بينهم جميعا كان كل منهم مسؤولا عن ذلك الفعل كما لو ارتكبه وحده. هذا يخالف ما عليه جمهور الفقهاء وله نتائج عملية فالمادة 83 (5) من قانون العقوبات تقول: يشترط في ارتكاب جريمة التحريض بطريقة الاتفاق ان يدير المحرض الجريمة مع الشخص الذي ارتكبها بل يكفي أن يشترك في الاتفاق الذي ارتكبت الجريمة تحقيقا له. هذا لا يقره جمهور الفقهاء. والمادة 89 تعتبر المحرض الذي حضر الجريمة فاعلا أصليا حتى إذا لم يقم بأي دور في ارتكابها. الفقهاء لا يقرون هذا أيضا وان أجازوا تعزيره.
هذه العقوبات مصدرها القانون الوضعي وهي لا تتفق مع مفاهيم الفقه الإسلامي بوضعها الراهن اللهم إلا إذا جرى تطوير لمفاهيم الفقه الإسلامي الحديث من نصوص ومقاصد الشريعة الواسعة لاستيعاب هذا المفاهيم. والى أن يحدث ذلك ستظل هذه العقوبات نابية في إطار أحكام الفقه الإسلامي غير عادلة بمقياس آراء جمهور الفقهاء.
المشهد الثاني: المادة 93 من قانون العقوبات لسنة 1983م تنص على جريمة الشروع في ارتكاب الجرائم. ان الشروع في ارتكاب الجرائم يعد جريمة في القانون الوضعي